البناء والتخطيط والتغيرات المناخية تأثر وتأثير.. والتكيف لم يعد خيارا

بقلم سفيان الكرباع

“ليس اقوى الكائنات هو الذي يبقى، ولا أكثرهم ذكاء، بل اقدرهم على التأقلم مع التغيرات”. هكذا قال عالم الأحياء الشهير “تشارلز داروين” والأصل فيه أن نفسر بها سبب انقراض بعض أجناس الكائنات الحية دون غيرها مع غابر العصور، ولكن سياق التغيرات المناخية الذي نعيشه وتداعياته المدمرة يشفع لنا إسقاط ما قاله “داروين” على زماننا في كوكب سيصبح أكثر حرارة مع مرور الوقت وفي بلد سيكون مناخ شماله كجنوبه إذا ما واصلنا التعامل مع الاحتباس الحراري بنفس الرؤية والجهد.

 مؤثر ومتأثر

لا يًسْمَحُ بأن يًظنّ اليوم أن أعراض الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية تقتصر بالأساس على الفلاحة والأرض والجفاف فالظاهرة تقترب كل يوم ومع كل دراسة علمية لان تكون سلاحا بطيئا من أسلحة الدمار الشامل. حتى المباني العصرية وما تستهلكه من مواد أضحت مؤثرة ومتأثرة بهذه التغيرات لتجرّ معها قطاعا كاملا نحو التكيف والتأقلم. هذا ما ذهبت إليه وترجمته اتفاقية باريس التاريخية حول المناخ حيث اشتُرِطَ الانتقال والتغيير في سياسات البناء والتعمير لتحقيق الأهداف المرسومة لتقليص نسبة الغازات الدفيئة وذلك على اعتبار مساهمته المباشرة في الانبعاثات العالمية بنسبة 19% وأيضا من خلال معدل استهلاكه المرتفع للطاقة والذي بلغ 32%. أما على الصعيد المحلي فيحتل قطاع البناء والتخطيط في تونس المركز الثاني من جملة القطاعات الأكثر استهلاكا للطاقة بنسبة بلغت 31% مع توقعات رسمية بأن يصبح القطاع الأول في السنوات القادمة متجاوزا قطاع الصناعة وبالتالي سيكون المصدر الأول لانبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

                                        نسب وتوقعات تطور استهلاك الطاقة حسب القطاعات

(المصدر: الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة)

قطاع إنتاج الاسمنت في تونس هو أيضا معني جدا بقضية البيئة والمناخ فحسب إحصائيات الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة لسنة 2012 (1) بلغت مساهمته في انبعاثات الغازات الدفيئة حوالي 10% نظرا لاعتماده بالأساس على للطاقة الناجمة عن حرق الوقود الاحفوري (نفط، غاز، فحم…) وقد بلغ نسبة استهلاك قدرت ب 740 كيلو طن مكافئ نفط، وفق ذات المصدر.

 كيف نبدأ في التكيف؟

قبل الامتحانات المدرسية المهمة عادة ما كان المعلمون والأولياء يوجهوننا وينصحوننا بأن نعطي الأولوية للإجابة عن الأسئلة الأسهل قبل الأصعب وذلك لتجنب ضغط الوقت وتوفير الجهد. بنفس المنطق فإن تكيف البناء والتخطيط مع الاحتباس الحراري يبدأ من الاهتمام بالتفاصيل السهلة والغير مكلفة. خلال ورشة عمل صلب فعاليات “الجامعات البديلة للمناخ” وهو فرصة تدريب وتبادل للخبرات منحتها “الشبكة البديلة للشباب” آخر الأسبوع الماضي، قدمت المهندسة المعمارية “نور الهدى الجويني” حلولا من شأنها الحد من آثار الحرارة على البنايات والعمارات. المهندسة التي تعد لأطروحة الدكتوراه في الهندسة الايكولوجية فسرت أنه حسب موقعنا الجغرافي فإن الشمس في تونس تكون شبه عمودية وعالية في أطول أيام فصل الصيف وبالتالي يمكن لسقف يتجاوز مساحة البناية ويكون بمثابة الحاجب أو المظلة من أشعة الشمس، أو تركيز عاكسات للأشعة الشمسية، بأن يحد من آثار الحرارة وامتصاص الجدران لها وهذا سيوفر بدوره طاقة كانت ستستهلك في التبريد والتكييف. أيضا تعرضت المهندسة المعمارية لأهمية اعتبار خصائص التهيئة العمرانية حسب المنطقة والمكان بهدف أن يكون هناك تيارات هوائية تساهم في عملية التبريد والتهوئة بشكل طبيعي.

نور الهدى الجويني، دكتوراه في الهندسة الإيكولوجية

وحسب دراسة أصدرها “المعهد الأمريكي لعلوم البناء” (2) فإن هذه التفاصيل والحلول تعتبر أقل كلفة بست مرات من أي إجراءات وقائية أخرى تجاه الاحتباس الحراري. كما بينت دراسات أخرى أهمية تفاصيل أخرى كأحجام المعدات المخصصة التهوئة وسماكة بلور النوافذ (نوافذ بطبقتين زجاج أو أكثر) ووجود ظل الشمس واستخدام الطلاء العاكس لأشعة الشمس في الأسطح والواجهات واستعمال العوازل الحرارية مع تشجير محيط المدن والأسطح والأسوار.

 تصميم صديق للبيئة والمناخ للمركز الثقافي “المسبح” بزغوان.عمل “زياد بن طاهر” و”نور الهدى الجويني”: ورشة zigzag للهندسة المعمارية.

إذا كان تأقلم الإنسان مع الإنسان قد يراه البعض تنازلا فهو مع الطبيعة والشمس ضرورة وذكاء في نفس الوقت. وكما عرف العالم المشهور “ستيفن هوكينغ” الذكاء بالقدرة على التأقلم مع التغيرات فإننا نريد أن نهمس لكل من اتصل شأنه بهذا القطاع سواء كان صاحب شركة أو باعث عقاري أو مسؤول عن مثال التهيئة العمرانية في مجلس بلدي أو غيره بضرورة تعديل وتحيين تصاميمه وتصوراته على سياق التغيرات المناخية والاستئناس بالأدوات والدلائل المصورة التي وضعتها الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة لأهل القطاع والتي تجدون روابطها في مصادر هذا المقال.

المصادر

(1) الإستراتيجية الوطنية للتحكم في الطاقة في قطاع البناء والتخطيط: https://goo.gl/zAXzoA

(2) دراسة المعهد الأمريكي لعلوم البناء: https://goo.gl/Kz1pNU

(3) دليل تطبيقي لإنشاء مساكن مقتصدة للطاقة: https://goo.gl/73azYa

(4) دليل مساعد لتصميم بنايات مقتصدة للطاقة: https://goo.gl/fjUZhT

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *