بقلم عيسى زيادية
في الوقت الذي لا يزال التغير المناخي في مناطق أخرى من العالم، خصوصا شمال الكرة الأرضية في مرحلة التهديدات والتوقعات تعاني أغلب البلدان النامية من تبلور هذه المشاكل فعليا، وتهديدها لاستمرار حياة هذه الشعوب، بتهديد أمنها الغذائي وطرق عيشها.
ففي تونس وتحديدا الأرياف الغربية لمنطقة منزل تميم المدينة الساحلية، التي تنتمي لولاية نابل شمال شرقي البلاد، اصطدمت دلاء سقي الاشجار بقاع البئر منذ أكثر من 15 سنة لتعلن نضوب المائدة المائية بالجهة وتوديع قطاع الزراعة السقوية إلى الأبد.
فبعد عقود من اضطرابات التساقطات المطرية والاستغلال المتزايد للمائدة المائية عجزت هذه الأخيرة عن التجدد والاستجابة لحاجيات الزراعة السقوية، التي تتطلب كميات هائلة من الماء في ذروة فصل الصيف.
إزاء هذه الكارثة التي حلت بمزارعي المنطقة وجد محمد كمال، نفسه مجبرا على تقبل الوضع وإيجاد سبيل للتكيف، لتلافي خسارة عمله الذي لا يتقن غيره.
يقول كمال في حديثه ل”اليئة نيوز” لقد حاولنا في البداية الحفر أعمق في البئر عسى أن نجد مدخرات مائية أوفر، ولكن كل محاولاتنا باءت بالفشل، وبدأت اشجارنا بالذبول فكنا نقطعها الواحدة تلو الأخرى بعد أشهر من التردد، لأننا لا ندري ماذا سنفعل بعدها”
ويواصل، عندما كانت البئر تنضب ظهر اليوم ، كانت تمتلئ صباح اليوم الموالي وتتجدد باستمرار ، توقعنا أن هذا الحال لن أن يتغير ولكن شح الأمطار المتزايد وتكاثر الآبار في المنطقة قادما إلى هذه النهاية الدرامية”
بعد أن كانت أرض محمد كمال التي تمسح قرابة الأربعة هكتارات وورثها عن أبيه، مغطات بكل انواع الأشجار المثمرة ومساحة خصبة لزراعة الفلفل والطماطم والبطاطا نراها الآن في فصل الصيف جافة وخالية إلا من بعض أشجار التين واللوز البعلية.
محمد كمال نجح أخيرا في أن يتأقلم مع هذا الواقع الحزين، والذي دُفع إليه نتيجة التغير المناخي وتأثيراته القاسية، فقد عمل على تحويل زراعة الفلفل والطماطم والبطاطا وغراسة أشجار العنب والرمان والبرتقال إلى زراعة أشجار التين واللوز والتعويل على زراعة القمح والشعير البعليين.
والزراعة البعلية أو المطرية، هي التي تعتمد على مياه الأمطار بشكل أساسي، وذلك لتزويد المحاصيل باحتياجاتها المائية، بعكس الزراعات المروية التي تعتمد على المياه الجوفية أو مياه الأنهار.
ويتم الاعتماد على مياه الأمطار في سقي المزروعات عندما يكون معدل الهطولات المطرية أعلى من 500 ملم في السنة، ويرجح أن أصل التسمية من كون الإله بعل هو المسؤول عن هطول المطر، فنُسبت إليه.
رغم تواضع مردودية الزراعات البعلية، إلا أنها تمكنت في أن تحفظ لكمال ومزارعي الجهة مهنتهم التي ورثوها عن أجدادهم، حيث أن معرفتهم بمتطلبات كل نبتة مكنتهم من مقارعة شحّ المياه شتاء وانعدامه صيفا.
بشير حمام أحد فلاحي المنطقة الآخرين، يتحسر على أيام العنب والتفاح والذرة ومردود هذه الزراعات ولا يخفي تخوفه من تواصل أزمة الجفاف في تونس التي امتدت على السنوات الثلاث الماضية.
يقول بشير في حوار ل”بيئة نيوز” استطعنا أن نُكيف زراعتنا مع تغيرات المناخ وقسوة الظروف الطبيعية ولكننا خسرنا كثيرا وبالكاد نحن الآن نحقق أرباحا ، ذلك أن الزراعات البعلية إن أولت على أمطار الشتاء فإن الشتاء بات غير مضمون، فمثلما ترون لقد أضرت بنا موجة الجفاف المتواصلة وانخفضت مردودية المحاصيل بشكل مرعب”
عرفت تونس منذ 2014 أزمة جفاف حادة، تأثرت معها المحاصيل الزراعية البعلية، التي يتم بذرها في الخريف وتحتاج لكميات أمطار لا تقل عن 500 ملم في حين لم تتجاوز كميات التساقطات في هذه المنطقة 350 ملم حسب المعهد الوطني للرصد الجوي.
مشكلة المزارعين في هذه الأرياف هي صغر مساحاتهم الزراعية، حيث تتطلب الزراعات البعلية مساحات شاسعة لتحقيق عوائد مالية كافية.
كأسلوب مبتكر لمجابهة جفاف الأشجار المثمرة في فصل الصيف دأب الطاهر العصفور، وهو مزارع ستيني على اعتماد طريقة مختلفة تماما عن المألوف، حيث يعمد إلى تهشيم أوراق أو “ظلف” ” التين الشوكي”، وهي نبتة محلية من عائلة الصبار، وردمها عند جذور أشجار الرمان.
يقول العصفور ل “بيئة نيوز ” “باستخدام هذه التقنية البدائية يمكن ان تحصل جذور الشجار على كمية مهمة من الماء الموجود في الظلف، حيث أن سيعمل مثل الرضاعة على مدها بالماء وتجنيبها الجفاف”
ويضيف” طبعا هذه الطريقة لا تعوض مياه الري المنتظمة ولكنها تجنب الشجرة الجفاف وتعطيها احتياجاتها الأساسية من الماء حتى لا تجفّ كما أن “الطلق” سيتحول إلى أملاح معدنية مفيدة لشجرة ومتصلة بجذورها مباشرة”
بعد ارتفاع درجات الحرارة في السنوات الأخيرة وتعرض كميات المياه القليلة إلى التبخر السريع، بعد عملية السقي التقليدي توجه أيمن شربان إلى الاعتماد الكلى على الري قطرة وتحويل المياه القليلة إلى زراعة التين الشوكي، بدل الخوخ الذي لم تعد مياه الآبار كافية له بأي حال.
يقول أيمن في حوار ل “بيئة نيوز” البئر الكبيرة التي أمتلكها لم تعد قادرة على تزويد الأشجار بالماء طيلة فصل الصيف، ولكنها قادرة على سقي صفوف التين الشوكي الذي لا يتطلب السقي أكثر من ثلاث مرات، ليثمر”
التين الشوكي هو نوع من النباتات ينتمي لفصيلة الصباريات، تنمو بالأماكن الجافة وهي معمرة كثيرا ولها قدرة هائلة على مقاومة الجفاف نظرا لسوقها المليئة بالماء، تثمر ثمارا شهية أول الصيف يسميه التونسيون “سلطان الغلال” لفوائدها الغذائية وحلاوة طعمها رغم صعوبة تناولها بسبب الشوك الذي يغطي قشورها.
وقد استطاعت أن تفتك لها مكانة بعد الإقبال الكبير عليها في الأسواق وارتفاع أسعارها مقارنة بالسنوات البعيدة، فكانت إلى جانب الأشجار البعلية، مثل التين واللوز مخرجا للفلاحين من أزمة شح المياه وجفاف الموائد المائية.
الجدير بالذكر أن قطاع الزراعة يأتي كأكثر القطاعات المتأثرة بتهديدات التغيرات المناخية، كونه يقع تحت وطأة عدد كبير من العوامل المتباينة، ولذلك تسعى منظمات دولية على غرار منظمة الأغذية والزراعة العالمية إلى بناء توقعات أكثر دقة حيال التأثيرات المناخية على قطاع الزراعة، سعيا لضمان تأمين المواد الغذائية لسكان العالم المتزايدين.