على أطراف مدينة المعمورة في قلب الضفة الشرقية للوطن القبلي توجد قطعة أرض لا تشبه غيرها هي سبخة المعمورة. موقع بيئي هشّ غنيّ بتنوعه الطبيعي صنّف كمحمية عالمية تحت رعاية برنامج الأمم المتحدة للتنمية وأوكلت مسؤولية حمايته لوكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي.
لكن كل هذه الشعارات والاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية تبدو اليوم حبراً على ورق. فالمكان يتحول أمام أعين الجميع إلى ضيعة مفتوحة لحيتان العقار. فيلات فاخرة تقسيمات عقارية أسوار تشق أراضي السبخة وتسوية للكثبان الرملية التي طالما شكّلت حاجزاً طبيعياً ضد زحف البحر.
انتهاك سافر باسم الاستثمار
ما يحدث في سبخة المعمورة لا يمكن وصفه إلا بالسطو المنظّم على الملك العمومي البحري. الأراضي التي من المفترض أن تُحمى بموجب القانون التونسي واتفاقية “رامسار” يتم تحويزها وبيعها وتسييجها دون أي التزام بالضوابط البيئية. هناك أراضٍ ملحية لا تصلح للزراعة أو البناء تُحوَّل بقدرة النفوذ إلى مشاريع سكنية فاخرة.
وكل ذلك يجري بصمت مريب من الدولة. لا وكالة الشريط الساحلي تتدخل جديا ولا وزارة البيئة تصدر موقفًا ولا البلدية تمارس صلاحياتها في الحماية. حتى أن المسارات الفلاحية التي يستعملها الأهالي أصبحت مغلقة مما يدفع السكان إلى سلك طرق بعيدة تُثقل حركة المرور وتُزيد من عزلة بعض الأحياء.
دولة الغائب الحاضر
متى كانت القوانين البيئية في تونس مجرد نصوص تزيّن الرفوف؟ ألم تُقر مجلة الجماعات المحلية لسنة 2018 مسؤولية البلديات المباشرة في حماية البيئة؟ ألم ينص الفصل 45 من الدستور على الحق في بيئة سليمة ومتوازنة؟ بل أكثر من ذلك أليست السواحل ملكًا عامًا لا يُباع ولا يُحجز؟ كل هذه الأسئلة تتبخر أمام وقائع ميدانية صارخة تؤكد أن هناك مَن يتصرّف في الأرض وكأنها مشاع.
عندما تُباع السبخة… من يشتري الصمت؟
الصورة التي تُرسم اليوم لسبخة المعمورة تنذر بالخطر: محمية تُنهب أرض لا تصلح للبناء تُقسَّم وتُسوّى ومجال طبيعي يُحوّل إلى منطقة مغلقة يُمنع المواطن من النفاذ إليها. الأسوأ أن هذا التعدي لا يهدد فقط التوازن البيئي بل ينتهك حق الناس في الشاطئ ، في الهواء وفي الطبيعة.
هل نحتاج إلى كارثة بيئية جديدة كي نفيق؟ أم أن صوت المضاربة أعلى من صوت القانون؟
السكوت الرسمي المستمر أمام هذا التدمير الممنهج يُفرغ مفاهيم “العدالة البيئية” و”الحوكمة المحلية” من مضمونها ويُعيدنا إلى معادلة قديمة يعرفها الجميع: المال والنفوذ يشتريان الصمت… وحتى الأرض.