قابس… من جنة الأرض إلى مدينة تختنق

 

فاتن الطرودي

تُعدّ ولاية قابس إحدى الولايات التونسية المميّزة بموقعها الاستراتيجي المطلّ على البحر، وبواحاتها الساحلية والداخلية الغنّية، وجبالها وصحاريها   المتنوّعة. لم يكن من الغريب أن تُلقّب قديمًا بـ “جنة الأرض”، لما كانت تتمتّع به من جمال طبيعي وثراء بيئي فريد.
غير أنّ هذا المشهد تغيّر جذريًا منذ سنة 1972، تاريخ إنشاء المجمع الكيميائي بقابس تحت اسم الصناعات الكيميائية المغاربية، والمتخصّص في إنتاج الحامض الفوسفوري. في البداية، استبشر أهالي الجهة خيرًا بالمشروع الذي وُعد بأن يكون مصدرًا للتشغيل ومحركًا للتنمية الوطنية، نظرًا لموقع قابس الصناعي والبحري المميّز. لكن مع مرور السنوات، تحوّلت الآمال إلى خيبة.
أصبح التلوّث البيئي العنوان الأبرز في قابس. فقد بدأ المجمّع في إطلاق انبعاثات تُعرف محلّيًا باسم “البُخارة”، لتنتشر الأمراض التنفسية والسرطانية بشكل مقلق في صفوف الأهالي.
وفي 5 مارس 2025، أُعلن عن سحب مادة الفوسفوجيبس من قائمة المواد الخطرة، بموافقة اللجنة العلمية ووزارة الصناعة، بهدف “إعادة تثمينها” وخلق فرص عمل جديدة. غير أن هذه المادة، المشتقة من الفسفاط والمستخدمة في صناعة الأسمدة، تحتوي على كبريتات الكالسيوم وكميات متفاوتة من الفوسفور والفلور والمعادن الثقيلة ومواد مشعّة طبيعية، وهي وفق الدراسات العلمية مادة خطيرة تُسبّب تلوثًا بيئيًا واسع النطاق.
عقب القرار، ألقى المجمع الكيميائي فضلات الفوسفوجيبس في البحر، مما أدّى إلى تلوث المياه وتدهور الثروة السمكية. وفي 27 سبتمبر 2025، سُجّلت أولى حالات الاختناق في منطقة شط السلام، حيث تأثّر أكثر من 50 تلميذًا بالانبعاثات الغازية، ما أثار موجة من الغضب الشعبي تحوّلت إلى احتجاجات واسعة طالبت بغلق المجمع.
ورغم ذلك، كشفت وزارة الصناعة في 13 أكتوبر 2025 عن دراسة مشروع جديد للنقل الهيدرولوكي للفسفاط التجاري من الحوض المنجمي إلى معامل قابس، وهو قرار اعتبره الأهالي تجاهلاً لمعاناتهم واستمرارًا في تلويث المنطقة.
بعدها بيوم واحد فقط، في 14 أكتوبر 2025، سُجّلت أكثر من 80 حالة اختناق جديدة في صفوف تلاميذ إعدادية شط السلام. قابس التي كانت تُعرف بـ “جنة الأرض”، أصبحت اليوم مدينة تختنق، وأهلها يرفعون صوتهم عاليًا للمطالبة بحقّهم في بيئة سليمة و هواء نقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *