نحو خارطة طريق وطنية لتنمية الاقتصاد الأزرق في تونس

 

 

ينزع الإنسان منذ القدم إلى الإقامة على السواحل غير بعيد من البحر لعدة أسباب تتعلق خاصة بأنشطته الحياتية، و لا شكّ أنّ أغلبية القراء يعلمون أن قمّة الإزدهار الإقتصادي لوطننا عبر التاريخ، كان في الحقبة التاريخية للفنيقيين حيث كانت قرطاج تسيطر تجاريا و عسكريا على المتوسط مما جعلها تدعى بـ”إمبراطورية البحر” كما أن ما بقي من آثار للموانئ البونيقية يشهد على ذلك.

و الجدير بالذكر أن مساحة المحيطات والبحار تمثّل حوالي 70 بالمائة من كوكب الأرض و هي تزخر بالثروات المعروفة و الغير معروفة فضلا على أن النقل البحري يمثل نسبة 90 بالمائة من النقل الدولي التي له دور كبير في ربط دول العالم ببعض، وهناك فرصة أخرى متاحة لتحقيق الأمن الغذائي، والتنمية المستدامة وتوفير الغذاء للأعداد المتزايدة لسكان العالم، وذلك عن طريق استغلال الموارد الطبيعية من ثروات نفطية وغاز ومعادن في المحيطات والبحار بكفاءة والمحافظة على البيئة المحيطة.

 

و قد دفعت الأزمات العالمية الممتدة خلال العقود الماضية إلى الاهتمام بتقديم تحليل معمق ومراجعة دقيقة للنماذج الاقتصادية الحالية، بهدف التماس مسارات للتنمية المستدامة للحد من الفقر وزيادة الرفاهية البشرية. و كان من نتائج الاهتمام بالبحث عن مسارات جديدة للتنمية المستدامة، ظهور مفهوم “الاقتصاد الأزرق” في أعقاب مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة “ريو + 20” عام 2012.

و يهدف الاقتصاد الأزرق أو البحري حاليا إلى إيجاد مصادر أكثر ديمومة ترفد الاقتصاد و إحداث مواطن شغل جديدة كما يركّز على الاستغلال المستدام للمحيطات والبحار و البحيرات والثروات التي يحملهن بشكل مباشر أو غير مباشر، ويشمل بشكل واضح صناعات مختلف أنماط الهياكل العائمة و الجزر الإصطناعية والتنقيب عن النفط و الغاز والمعادن و السلامة والمراقبة البحرية و السياحة الساحلية و الجولات البحرية و الرياضات البحرية و الصيد البحري و تربية  الأحياء المائية و النقل و التجارة البحرية والخدمات اللوجستية و البنية التحتية و صناعات السفن و اليخوت و الزوارق والبوارج و الغواصات وخطوط الأنابيب، والكابلات البحرية للاتصال والاستشعار عن بعد و الطب الحيوي و الصناعات الصيدلية و التجميلية ومعالجة وتحلية مياه البحار و البتروكيميائيات و تنمية المناطق الساحلية و إنجاز المشاريع الكبرى و الموانئ التجارية و الترفيهية و الخاصة بالصيد البحري و  الهندسة و البحث العلمي و الشراكة الدولية إلخ…، بالإضافة إلى كل المصادر الممكنة المتعلقة بالبحار. و يكون تحقيق هذا المفهوم عن طريق مراعاة التوازن بين النموّ الاقتصادي والحفاظ على البيئة. كما أن البحار و المحيطات توفر نصف الأوكسجين لكوكب الأرض، وتنهض بدور أساسي في حل مشكلة الأمن الغذائي، حيث يعاني أكثر من مليار شخص في العالم من سوء التغذية و يعتمد 15% من سكان العالم على صيد الأسماك وتربية الأحياء المائية ، كما أن الاقتصاد الأزرق يساهم في الكثير من الأنشطة الاقتصادية بأكثر من 5 تريليونات دولار خاصة في النقل و الشحن و التسهيلات للموانئ.

ولأنّ هذا المجال بات حيويًا ومستقبليًا من حيث الاستثمار فيه، فقد اتجهت العديد من الدول و المنظمات إلى بناء خطط واستراتيجيات مستقبلية في هذا الإطار وتفعيل الدور الحيوي له، من حيث دراسة الفرص الممكنة وكيفية بناء أفكار جديدة ومنتجات حيوية و ذلك عبر تنظيم ملتقيات هامة على غرار المؤتمر الوزاري الثاني لـ “قمة الاقتصاد الأزرق” التي أنتظم بمدينة أبوظبي عاصمة الإمارات العربية المتحدة في 19 جانفي 2016 و الإجتماع الوزاري للدول الثلاث والأربعون للاتحاد من أجل المتوسط في 17 نوفمبر 2015 بالعاصمة البلجيكية بروكسال حيث أصدروا الإعلان الوزاري بشأن الاقتصاد الأزرق حول خارطة طريق للاستثمار الأزرق وفرص العمل في البحر الأبيض المتوسط، و إقرار خطط عمل على غرار خطة عمل الإتحاد الأوروبي للابتكار و التجديد في الاقتصاد الأزرق إلى غاية سنة 2020 و إصدار مراجع هامة على غرار دليل السياسات لتوجيه مبادرة الاقتصاد الأزرق في أفريقيا التي أصدرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا سنة 2016 و خارطة الطريق حول إعداد برتوكول الاقتصاد الأزرق المستدام الخاص بالمستثمرين و أصحاب القرار و الذي أصدره الصندوق العالمي للطبيعة سنة 2017 و القمة الدولية للمحيطات بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية من 5 إلى 9 جوان 2017.

 

ولأن بلادنا من الدول التي تتمتع بموقع جغرافي متميّز بالمتوسط يطل على المسالك الدولية للسفن العابرة و شريط ساحلي بطول حوالي 2300 كلم و منطقة إقتصادية بحرية خصوصية بمقتض قانون عدد 50 لسنة 2005، و نظرا لوضعية الإقتصاد التونسي الحالية، فإن الاتجاه إلى تفعيل مجال الإقتصاد الأزرق و وضع الخطط الاستراتيجية له أصبح أمرًا لا بد منه لدعم النموّ الإقتصادي على غرار الإستراتجية الأوروبية 2020 التي تهدف لزيادة النمو لتصل إلى 600 بليون يورو أو أكثر، مقارنة بالنمو الحالي الذي يحقق نحو 484 بليون يورو سنوياً لدول الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر الشريك الإقتصادي و التجاري الأول لتونس.

 

وهذه دعوة مفتوحة للمعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية لبعث دراسة استراتيجية في أحسن الآجال تعنى بوضع خارطة طريق وطنية لتنمية الاقتصاد الأزرق في تونس.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *